آيه ومعناها
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا سورة النور
قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ كَلَامَ
الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَرْجِعُ جَمِيعُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الزِّينَةَ هُنَا نَفْسُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ;
كَوَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا .
الثَّانِي : أَنَّ الزِّينَةَ هِيَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ خَارِجًا عَنْ بَدَنِهَا .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الزِّينَةِ الْمَذْكُورَةِ الْخَارِجَةِ
عَنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ
شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ ; كَالْمُلَاءَةِ الَّتِي تَلْبَسُهَا الْمَرْأَةُ فَوْقَ
الْقَمِيصِ وَالْخِمَارِ وَالْإِزَارِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا الزِّينَةُ الَّتِي يَتَضَمَّنُ إِبْدَاؤُهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ
مِنَ الْبَدَنِ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ .
فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ الْوَجْهِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَكَالْخِضَابِ
وَالْخَاتَمِ ، فَإِنَّ رُؤْيَتَهُمَا تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْيَدِ ،
وَكَالْقُرْطِ وَالْقِلَادَةِ وَالسِّوَارِ ، فَإِنَّ رُؤْيَةَ ذَلِكَ
تَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ مَحَلِّهِ مِنَ الْبَدَنِ ; كَمَا لَا يَخْفَى .
وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ
نُبَيِّنُ مَا يُفْهَمُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ رُجْحَانُهُ .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَيْ : لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ
لِلْأَجَانِبِ ، إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ
كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ ، يَعْنِي عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ نِسَاءُ
الْعَرَبِ مِنَ الْمِقْنَعَةِ الَّتِي تُجَلِّلُ ثِيَابَهَا ، وَمَا يَبْدُو مِنْ
أَسَافِلِ الثِّيَابِ ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِيهِ لِأَنَّ هَذَا لَا
يُمْكِنُهَا إِخْفَاؤُهُ وَنَظِيرُهُ فِي زِيِّ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ مِنْ
إِزَارِهَا ، وَمَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ : وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا
وَالْخَاتَمَ .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نُهِينَ
عَنْ إِبْدَائِهَا ; كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ ، عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قَوْلِهِ : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
الزِّينَةُ : الْقُرْطُ ، وَالدُّمْلُوجُ ، وَالْخَلْخَالُ ، وَالْقِلَادَةُ ،
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، قَالَ : الزِّينَةُ زِينَتَانِ ،
فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ الْخَاتَمُ وَالسِّوَارُ ، وَزِينَةٌ
يَرَاهَا الْأَجَانِبُ ، وَهِيَ الظَّاهِرُ مِنَ الثِّيَابِ ، وَقَالَ
الزُّهْرِيُّ : لَا يَبْدُو لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ مِمَّنْ لَا
تَحِلُّ لَهُ إِلَّا الْأَسْوِرَةُ وَالْأَخْمِرَةُ وَالْأَقْرِطَةُ مِنْ غَيْرِ
حَسْرٍ ، وَأَمَّا عَامَّةُ النَّاسِ ، فَلَا يَبْدُو مِنْهَا إِلَّا الْخَوَاتِمُ
.
وَقَالَ مَالِكٌ ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا : الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا : بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
فِي " سُنَنِهِ " :
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا:
أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ
فَأَعْرَضَ عَنْهَا ، وَقَالَ " : يَا أَسْمَاءُ ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا
بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا " ،
وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ ، لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ : هُوَ
مُرْسَلٌ ، خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، اهـ كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا مَا
ظَهَرَ مِنْهَا : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ ، فَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ : ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ ، وَزَادَ ابْنُ جُبَيْرٍ :
الْوَجْهُ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا ، وَعَطَاءٌ ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ : الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ وَالثِّيَابُ ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ : ظَاهِرُ الزِّينَةِ
هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ وَالْقِرَطَةُ
وَالْفَتَخُ وَنَحْوُ هَذَا ، فَمُبَاحٌ أَنْ تُبْدِيَهُ الْمَرْأَةُ لِكُلِّ مَنْ
دَخَلَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ . وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فِي
مَعْنَى نِصْفِ الذِّرَاعِ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا عَرَكَتْ أَنْ تُظْهِرَ
إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا إِلَى
هَاهُنَا ، وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ
الذِّرَاعِ .
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَيَظْهَرُ لِي بِحُكْمِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ أَنَّ
الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَنْ لَا تُبْدِيَ وَأَنْ تَجْتَهِدَ فِي الْإِخْفَاءِ
لِكُلِّ مَا هُوَ زِينَةٌ ، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ بِحُكْمِ
ضَرُورَةِ حَرَكَةٍ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، أَوْ إِصْلَاحِ شَأْنٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ ، فَمَا ظَهَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ
الضَّرُورَةُ فِي النِّسَاءِ ، فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ .
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَعَبْدُ بْنُ
حُمَيْدٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
قَالَ:الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ : هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ
، وَالْخَاتَمُ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، وَابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ :
وَجْهُهَا ، وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، وَابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ :
رُقْعَةُ الْوَجْهِ ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، وَابْنُ
الْمُنْذِرِ ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا: أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ ؟ فَقَالَتِ : الْقَلْبُ
وَالْفَتَخُ ، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ : إِلَّا
مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ : الْوَجْهُ وَثُغْرَةُ النَّحْرِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ :
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ : الْوَجْهُ وَالْكَفُّ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ : إِلَّا مَا ظَهَرَ
مِنْهَا قَالَ : الْكَفَّانِ وَالْوَجْهُ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قَالَ : الْمُسْكَتَانِ
وَالْخَاتَمُ وَالْكُحْلُ .
وَقَدْ رَأَيْتَ فِي هَذِهِ النُّقُولِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ السَّلَفِ
أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالزِّينَةِ
الْبَاطِنَةِ ، وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ ; كَمَا ذَكَرْنَا :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ خَارِجًا
عَنْ أَصْلٍ خِلْقَتِهَا ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ رُؤْيَةَ شَيْءٍ
مِنْ بَدَنِهَا ; كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمَنْ وَافَقَهُ : إِنَّهَا ظَاهِرُ
الثِّيَابِ ; لِأَنَّ الثِّيَابَ زِينَةٌ لَهَا خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا
وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ ، كَمَا تَرَى .
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا وَأَحْوَطُهَا ،
وَأَبْعَدُهَا مِنَ الرِّيبَةِ وَأَسْبَابِ الْفِتْنَةِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ : مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ
أَصْلِ خِلْقَتِهَا أَيْضًا ، لَكِنَّ النَّظَرَ إِلَى تِلْكَ الزِّينَةِ
يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ، وَذَلِكَ كَالْخِضَابِ
وَالْكُحْلِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ
رُؤْيَةَ الْمَوْضِعِ الْمُلَابِسِ لَهُ مِنَ الْبَدَنِ ، كَمَا لَا يَخْفَى .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ بَعْضُ بَدَنِ الْمَرْأَةِ
الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا ; كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُرَادَ
بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ
بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ
هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي
تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَتَكُونُ
فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ،
وَقَدَّمْنَا أَيْضًا فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي
تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ إِرَادَةَ مَعْنًى مُعَيَّنٍ
فِي اللَّفْظِ ، مَعَ تَكَرُّرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ ، فَكَوْنُ
ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ فِي الْغَالِبِ ، يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِدَلَالَةِ غَلَبَةِ
إِرَادَتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَذَكَرْنَا لَهُ بَعْضَ
الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْجَمَةِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنْ
أَنْوَاعِ الْبَيَانِ لِلَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ
الْمُبَارَكِ ، وَمَثَّلْنَا لَهُمَا بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِلَاهُمَا
مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا ، فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي
مَعْنَى : وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّ
الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ : الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ مَثَلًا ، تُوجَدُ فِي
الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، وَهِيَ أَنَّ
الزِّينَةَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ، هِيَ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا
هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا : كَالْحُلِيِّ ،
وَالْحُلَلِ .
فَتَفْسِيرُ الزِّينَةِ بِبَعْضِ
بَدَنِ الْمَرْأَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ،
إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ
قَالَ : الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ : الْوَجْهُ ،
وَالْكَفَّانِ خِلَافُ ظَاهِرِ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ
عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا
بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ .
وَأَمَّا نَوْعُ الْبَيَانِ الثَّانِي الْمَذْكُورِ ، فَإِيضَاحُهُ : أَنَّ
لَفْظَ الزِّينَةِ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُرَادًا بِهِ
الزِّينَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ أَصْلِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ، وَلَا يُرَادُ بِهَا
بَعْضُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ
كُلِّ مَسْجِدٍ [ 7 \ 31 ] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ 7 \ 32 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَهَا [ 18 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ
تَعَالَى : وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [ 28 \ 60 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [ 37 \ 6 ] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً الْآيَةَ [ 16 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ الْآيَةَ [ 28 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 18 \ 46 ] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ الْآيَةَ [ 57 \ 20 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [ 20 \ 59 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مُوسَى
: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا
أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [ 20 \ 87 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [ 24 \ 31 ]
، فَلَفْظُ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا يُرَادُ بِهِ مَا يُزَيَّنُ
بِهِ الشَّيْءُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ ، كَمَا تَرَى ، وَكَوْنُ
هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي لَفْظِ الزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ ، يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ يُرَادُ بِهِ هَذَا
الْمَعْنَى ، الَّذِي غَلَبَتْ إِرَادَتُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق