الخميس، 1 نوفمبر 2012

قريش تعلن حالة الطوارئ







الهجرة النبوية الشريفة


قريش تعلن حالة الطوارئ

 
أعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكّة، استنفارعام لكل العناصر المشركة، واتخذت السلطة في مكّة القرارات الآتية:

القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصّدّيق المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله ، والذي كان يتولى شئون الإنفاق على المسلمين، فمن المحتمل أن يكون رسول الله ما زال مختبئًا في بيته، أو لعل الرسول هاجر بمفرده، وأبو بكر يعرف طريقه، فلا بد من التأكد من ذلك، وقد قام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين، ذهب إلى بيت الصّدّيق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟

قالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها، فعلة شنيعة من سيد مكّة، لكنه لم يفكر أن يدخل البيت ليقلب محتوياته رأسًا على عقب، ليفتش عن الصّدّيق أو الرسول ، أو ليجد أي دليل يشير إلى مكانهما، لماذا لم يفعل ذلك؟ تذكروا: كفار مكّة لا يهتكون حرمات البيوت. كان هذا هو القرار الأول الذي اتخذه زعماء قريش، وهو البحث عن الصّدّيق.

القرار الثاني: هو إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكّة، فلعل الرسول ما زال مختبئًا في أحد البيوت في مكّة.

القرار الثالث: إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله أو صاحبه الصِّدِّيق ، تُعطَى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًّا أو ميتًا، والجائزة هي مائة ناقة، وهذا رقم هائل في ذلك الزمن.

القرار الرابع: استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة من مكّة.

لا تحزن إن الله معنا

وسبحان الله! مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله والصّدّيق ، ومع كون الخطة بارعة جدَّا ومحكمة جدًّا، إلا أنه كما ذكرنا من قبل: ليس طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، لا بد من ثغرات، اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي به غار ثور، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى باب غار ثور.

لم يبقَ إلا أن ينظروا فقط إلى داخل الغار، والغار صغير جدًّا.

الرسول يجلس في داخل الغار في سكينه تامة، وكأنه يجلس في بيته، والصّدّيق في أشد حالات قلقه واضطرابه، يقول الصّدّيق : يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا. قال الرسول في يقين:

اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيِنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا.

الله، الله! لو استشعر الدعاة إلى الله هذه المعية لهانت عليهم كل الشدائد، وكل المصاعب، وكل الآلام، بل لهانت عليهم الدنيا بأسرها، لكن الصّدّيق لم يكن خائفًا على نفسه، لم يكن قلقًا على حياته، ليس الصّدّيق الذي يفعل ذلك، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، إنما كان يخاف على رسول الله ، بل إنه في رواية يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ أَنَا فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْتَ هَلَكَتِ الأُمَّةُ.

ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور، بعد أن قطعوا هذا المشوار الطويل الصعب، وقد انتهت آثار الأقدام أمام فتحة باب الغار؟!

إن الله قد ألقى في روعهم ألاّ ينظروا إلى داخل الغار، مع أن هذه النظرة لن تأخذ أكثر من دقيقة واحدة وربما ثوانٍ أو أقل، ولا شك أنهم قد أخذوا ساعات طويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان، لكن هذا فعل الله .

روى الإمام أحمد والطبراني وعبد الرازق والخطيب أن عنكبوتًا قد نسج خيطًا كثيفًا حول الباب، وهذه معجزة ظاهرة، فقال الكفار: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.

وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا من كل طرقه، إلا أن كثرة طرقه يقوِّي بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديث الحسن، أما قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًّا لا تصحّ، وأنا أرى أنه حتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضًا من رب العالمين، إذ كيف لا ينظر الناس في داخل الغار مع كونه مفتوحًا، فسواء نسجت العنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من رب العالمين، والنتيجة واحدة: نجاة الرسول وصاحبه الصِّدِّيق من هذه المطاردة المكثفة.

مكث الرسول في الغار ثلاثة أيام كما كان مقررًا في الخطة المرسومة، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر بدوره، وحان وقت الرحيل إلى المدينة، وجاء عبد الله بن أريقط الدليل بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وجاء بناقة ثالثة له، وجاء معه أيضًا عامر بن فهيرة ليرافق الراكب المهاجر إلى المدينة، خرج الرسول من الغار ليلة غرة ربيع الأول من سنة 14 من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتُّخِذَتْ بعض الإجراءات الأخرى:

أولاً: الخروج ليلاً من الغار.

ثانيًا: الإمعان في اتجاه ناحية اليمن.

ثالثًا: الاتجاه غربًا ناحية ساحل البحر الأحمر، ثم الاتجاه شمالاً في الطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.

رابعًا: كانت هذه نقطة تأمينيّة من الصّدّيق لم يضعها رسول الله في الخطة المسبقة، ولكن استحدثها الصّدّيق لزيادة حماية الرسول ، وذلك أنه كان يسير أمام رسول الله تارة ثم يسير خلفه تارة، وهكذا طوال الطريق.

 ولما تنبه رسول الله إلى ذلك سأله عن ذلك، فقال الصّدّيق في حبٍّ عميق: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ (المطاردة) فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ (الكمائن) فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.

يتمنى أن لو جاء سهم أن يدخل في ظهره أو في صدره، ولا يمسّ رسول الله بسوء.

سُراقة بن مالك وسِوَارَا كسرى

وهكذا سارت القافلة المباركة من مكّة إلى المدينة، وعلى الجانب الآخر نشط الكفار في تحفيز أهل مكّة جميعًا للقبض على رسول الله وصاحبه، ونشط الانتهازيون، وأصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع، وبحثوا في كل مكان، ولم يوفّقوا جميعًا إلا واحدًا، إنه سراقة بن مالك.

بعض الناس رأوا رسول الله أو هكذا ظنوا، فذكروا ذلك أمام سراقة فضللهم عنه ليفوز هو بمائة ناقة، ثم أمر بفرسه وسلاحه وخرج في إثر رسول الله وأصحابه، حتى رآهم من بعيد، واقترب منهم حتى كان يسمع قراءة رسول الله للقرآن، وكان رسول الله لا يلتفت كما يقول سراقة وكما جاء في البخاري، وأبو بكر يكثر الالتفات، ثم حدثت المعجزة بأن بدأت أقدام الفرس تسوخ في الأرض، مرة والثانية والثالثة، حتى أدرك سراقة أن القوم ممنوعون، فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وأخبرهم أن القوم قد جعلوا فيهم الدية، فقال له رسول الله : "أَخْفِ عَنَّا". ثم قال له قولاً عجيبًا، قال: "كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سِوَارَيْ كِسْرَى".

فطلب سراقة من رسول الله أن يكتب له كتابًا بذلك، فأمر رسول الله عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا ؛ فكتب له على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله ، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق.

 فكان في أول اليوم جاهدًا في مطاردة الرسول ، وفي آخر اليوم مدافعًا عنه، وسبحان الله!

    وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدَّثر: 31].

وسبحان الله! مرت الأيام، وأسلم سراقة بعد فتح مكّة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب، وفيها سوارا كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله ، وأعطاه لعمر ، فأعطاه عمر سواري كسرى تنفيذًا لوعد رسول الله

وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى 3  إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى 4 [النَّجم].

لم يعكر صفو الرحلة بعد ذلك شيء إلى أن اقترب رسول الله من المدينة المنوّرة، ففوجئ برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك برسول الله وأصحابه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكن الرسول العظيم وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة، وكانوا في أول اليوم من المشركين فأصبحوا في آخره من الصحابة، فانظر إلى عظيم فضل الله عليهم وعلى الدعوة، فقد كانت السنوات تمضي في مكّة حتى يؤمن عدد مثل هذا هناك، وها هو الآن هذا العدد يؤمن في لحظة.

المهم أنه في النهاية وصل رسول الله إلى المدينة المنوّرة سالمًا، وذلك في يوم 12 من ربيع الأول سنة 14 من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمة جدًّا في الدعوة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة.

د. راغب السرجاني

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق