الخميس، 1 نوفمبر 2012

الهجرة النبوية إلى المدينة







الهجرة النبوية الشريفة

 
الهجرة النبوية إلى المدينة


د. راغب السرجاني

فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ

استنفد رسول الله الوسع في الخطة التي وضعها هو وأبو بكر الصّدّيق لنجاح الهجرة إلى المدينة، ولكن الطابع المميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكن إذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكمل العجز البشريّ بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسدّ الله هذه الثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكُّلاً على الله، بل تواكلاً، وشتَّانَ بين التوكُّل والتواكُل.

ماذا يفعل رسول الله في هذا الموقف الحرج، عشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلاً بالقتل، وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله صل الله عليه وسلم ؟

لقد نزل الوحي إلى رسول الله يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل، فسوف يأخذ الله بأبصارهم، وخرج الرسول صل الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أوَّلها إلى قوله :

وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ  [يس: 9].

وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله صل الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصّدِّيق لاستكمال تنفيذ الخطة، فهي بحمد الله إلى الآن تسير على ما يرام.

كان من الممكن أن يخرج الرسول صل الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله أراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله ، وأنه دون توفيق الله لا يتمّ أمر من الأمور، وأيضًا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله .

وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله أيّ أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلا الجزور، ورحم الشاة، وسُبّ بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أُحُد أكثر من إصابة، لم يأخذ الله بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين، وعيون أعداء الله ، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله :

إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ  [الحج: 38].

خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله ، والله يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله   إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ   [القمر: 49].

ترك رسول الله المشركين يحاصرون البيت، وفيه عليّ بن أبي طالب ، وانطلق إلى الصّدّيق ، ومكث عنده إلى منتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور، ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر الغار أولاً ليرى إن كان به أي شيء يضرّ، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله إلى الغار، وتم الجزء الأول من الخطة بنجاح.

نعود إلى بيت رسول الله صل الله عليه وسلم، والمشركون يحاصرونه، وعليّ نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مرّ عليهم رجل من المشركين لم يكن معهم؛ فقال لهم قولاً خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا ؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد.

  إذن الرجل شاهد محمدًا في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلاً لمح محمدًا وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبه لرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه على رءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مرّ عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهم كانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم.

 قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدوا عليًّا ينام في الفراش وهو يتغطّى ببردة النبي ، فقالوا: والله إن هذا لمحمدٌ نائمًا.

فتحير القوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم على ذلك، أتدرون لماذا؟

لقد قالوا: والله إنها لسُبَّة في العرب أن يُتحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ، وهتكنا سترَ حرمتنا.

سبحان الله! كفار مكّة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار.

وانتظر المشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب من فراشه، فرآه القوم، وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرام ويضربونه.

علي بن أبي طالب يتحمل الإيذاء

وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب ، وكان يبلغ آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا، إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتًى عزيزًا، وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم، لماذا؟

أولاً: لم يؤذن بعدُ للمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.

ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كل المشركين على بني هاشم.

ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعدُ، وهي ردُّ الأمانات إلى أهلها، ولا بد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.

أخذ المشركون عليًّا وحبسوه ساعة واحدة، لم يحبسوه شهرًا أو عامًا أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث في مكّة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينة المنوّرة فورًا.

فماذا فعل أهل قريش عندما اكتشفوا خروج الرسول من مكّة؟

     يتبع ان شاء الله

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق