الراشى والمرتشى فى النار
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال :
لعن رسول الله صل الله عليه وسلم الراشي والمرتشي . رواه أبو داود والترمذي .الحديث السابق فيه: شافع، ومشفوع عنده، ومشفوع إليه، وقضيت الحاجة ودفع إليه هدية.
والموضوع الثاني هنا: موضوع الرشوة، والرشوة أخطر وأضر داء في المجتمعات، يفسد الدين والدنيا، والفرد والجماعة والحاكم والمحكوم، فالرشوة في الغالب لا تكون إلا في باطل؛ لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى رشوة في الغالب، وفي النادر يحتاجها صاحب الحق، وسميت رشوة للمحاكاة، وأما الغالب الدائم فهو أن تدفع رشوة للباطل، وأما إن كنت صاحب حق فحقك يصل إليك.
إذاً: الرشوة: ما يدفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، والله سبحانه وتعالى أشار إلى خطر الرشوة في موطن تشريع عجيب يا إخوان!
ففي سياق آيات الصيام قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، ويمضي المنهج والأسلوب في التشريع وفي الرخص وفي الفدية، ثم في إباحة ما كان محرماً، ثم ذكر أول الصيام وآخر الصيام، ثم التحذير من حدود الله فلا تقربوها، ثم النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، ثم في النهاية قال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]
تدلوا: من الإدلاء وهو الدلو (وَتُدْلُوا بِهَا) أي: بأموالكم، فالدلو تدلونها إلى قاع البئر لتأخذوا الماء، فكذلك الرشوة، والرشوة من الرشا، والرشا هو الحبل الذي يتدلى به الدلو إلى قاع البئر، فكأن الرشوة بمثابة هذا الحبل الذي ينزل الدلو إلى قاع البئر لأخذ الماء، فكذلك عند الحكام، فالرشوة هي الحبل الذي يتوصل به الراشي إلى المرتشي ليأخذ منه ما يريد، من إبطال حق خصمه أو إحقاق باطله عليه.
وأقول: إن هذا من عجائب التشريع والإعجاز في كتاب الله؛ لأن الآيات في صيام رمضان ولوازمه، ثم قبل الخروج منها يأتي النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وبعدها: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]
فأيهما ألصق بالصيام: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188] أو يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]؟ الأهلة من تتمة أحكام الصيام (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)، لكن حجزها في الأخير، وجاء قبلها بتحريم الرشوة، وكأن السياق الكريم يقول لنا:
صمتم رمضان، وصمتم عن الحلال، أمسكتم عن الطيبات، وتعففتم عن الزوجات طيلة الشهر، فأنتم كمن دخل مصحة وهو مريض فتعافى، فقفوا هنا فكما صمتم عن الطيب الحلال من المطعم والزوجة؛ فصوموا عن أموال الناس بقية العام، لا تأكلوا أموال الناس، وأنتم صيام ما أكلتم أموالكم الحلال، وكذلك بعد رمضان لا تأكلوا أموال الناس بالباطل.
ويقولون: بعض الدول الأوروبية تفشت فيها الرشوة، وهي من لوازم الحروب، إذا وقعت حرب في دولة لا بد أن تأتي الرشوة؛ لأن مواد الغذاء والتموين تقل، وليس كل إنسان يحصل على حقه إلا بالرشوة، والمظالم تكثر، فقيل لرئيس وزرائها: لقد تفشت الرشوة في البلد وأفسدتها، فقال: أخبروني عن القضاء، هل وصلته الرشوة أو هو سالم منها؟ قالوا: القضاء سالم منها، فقال: إذاً: البلد بخير؛ لأن القضاء سيرد كل شيء إلى أصله، فالرشوة في القضاء مفسدة كبيرة، يأتي شاهد الزور ويأخذ الرشوة من المشهود له، ويقف أمام القاضي ويشهد، والقاضي لا يعلم الغيب، بل المصطفى صل الله عليه سلم يقول:
إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، يأتي بها أسطاماً يوم القيامة في عنقه.
والأسطام الحديد الذي يحرك به النار، يحرك به الفحم والحطب حتى يشتعل، فلما سمع كلاً منهما ذلك تراجعا، وقالا: حقي لأخي، لا أريد شيئاً.
ويهمنا أن سيد الخلق يقول: (وإنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع)؛ لأن الوحي لن يأتيه في هذه؛ لأنه يشرع ويسن للناس، فإذا كان يأتيه الوحي سيقول: الحق عند فلان، والحق عند فلان، والقضاة الآخرون من سيأتيهم؟ وهل جبريل سينزل للقضاة بعد هذا؟! لا.
فالرشوة تفسد النظام، وتضيع المصالح، وتحق الباطل، وتبطل الحق، وإذا أُبطل الحق، وحق الباطل فليس هناك فساد أكثر من ذلك.
إذاً: من هنا يقول صل الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي) وهو دافع الرشوة، (والمرتشي) أي: آخذها، وفي لفظٍ : (والرائش بينهما) أي: الساعي بينهما، يقول: كم تدفع لفلان ويمشي لك كذا؟ كم تأخذ من فلان وتفعل له كذا؟ ويساوم ويسعى بين الاثنين، هذا يقول: أدفع ألفاً، وهذا يقول: لا، أنا ما يكفيني إلا ألفين، ولا يزال يتوسط حتى يوصلها إلى ألف وخمسمائة، هذا هو الرائش، وقلنا: الثلاثة يلحقهم هذا الإثم: هذا بدفعه إياها، وذاك بأكلها، وهذا بالسعي فيها.
واليهود ذموا لأكلهم السحت،
والسحت هو الرشوة، أو الحرام، أو الباطل، والكل
يرجع إلى مصب واحد، وعلى هذا يجب على كل مسلم أن يتجنب مسلك الرشوة.
يقول الله - تعالى -: "سماعون للكذب أكّالون للسحت". قال ابن مسعود: السحت: الرشا.
وجاء عن أبيّ قال: لعن رسول الله
الراشي والمرتشي. وفي رواية ابن عمر والرائش.ويروى عن رسول الله كما في مسند أحمد أنه: (ما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب).
وقال ابن مسعود الرشوة: في الحكم كفر، وهي في الناس سحت.
وقال علي رضي الله عنه: (السحت الرشوة).
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: كانت الهدية في زمن رسول الله هدية واليوم رشوة.
وعن ابن مسعود قال: السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها.
فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن القلق النفسي والاضطراب الأمني الذي يعيشه الراشي والمرتشي هو أحد نتائج فعلهم، وهذا جزاء الدنيا، وأما الآخرة فالعذاب الأليم، ناهيك عن محق البركة وزوال النفع والخير من هذا المال لأنه مال حرام، وهو نوع من الإفساد في الأرض في دعم وإيصال عديمي الذمم ومن لا يستحق، وقد قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها .
ولا شك أن انتشار الرشوة بين البنات والشباب والنساء والرجال له ضريبة في المجتمع دينية ودنيوية.
فمن آثارها
الدينية:
1- أن تصيب المجتمع اللعنة؛ كما قال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصة". والراشي والمرتشي والرائش ملعون، وقد لعن رجل بعيره
في سفر فأمر النبي بإرجاع البعير، وقال: (لا يصحبنا ملعون).2- وأن صدقات هذا الصنف من الناس لا تقبل لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأموال الراشي والمرتشي حرام.
3- نزع البركة فالله يمحق البركة في الصحة والرزق والعمر فلا فائدة ولا نفع.
4- عدم إجابة الدعاء فأكل الرشوة سبب لعدم قبول الدعاء.
5- الرشوة تذهب الحياء والحياء من الإيمان فهما قرينان لا يفترقان فصاحب الرشوة لا يستحي من الله ولا من الناس.
ومن أثارها
الدنيوية:
1- توليد الحقد والكراهية بين المسلمين وأبناء الشعب والبلد الواحد لإحساس
كلٌ منهم بأن غيره قد استولى على حقه بالمال وبالرشوة وأن المنافسة لم تكن شريعة
وأن لعامل المال دور كبير في إيصال من ليس يكفأ إلى منصبه الحالي ومن ثمة استفادته
من كل مميزات هذا المنصب وربما يصبح وزيراً وهو غير أهل لذلك وإنما توصل إليه من
خلال الرشوة.2- انتشار الظلم بين المسلمين وليس هناك ظلم بعد الشرك بالله أعظم من كل أموال الناس بالباطل والتعدي على مصالحهم وهضم حقوقهم وهو من البغي الذي تعجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
3- عدم الثقة بمن أسند إليه الأمر فدفع الرشوة من قبل المرشح للناخبين يولد ترشيح من ليس بكفأ ديناً ولا أمانةً ولا علماً ولا عقلاً ففيه تضيع للأمانة وإسناد للأمر إلى غير أهله ومن ثم فساد العالم وكثرة الظلم وضياع مصالح العباد في المصالح الشخصية ومن ثم انتظر الساعة لحديث :
إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.
قالوا وما تضيعها قال :
إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
ولا شك أن سبب
انتشار الرشوة هو:
1- ضعف الإيمان وعدم التفكير في الآخرة والحساب وغياب الوازع الديني
والتربية الصحيحة، فضعيف الإيمان قاقد الرقابة الذاتية البعيد عن الله هو الذي
يتعاطى الرشوة أخذا وقبولاً وتوزيعاً دون النظر في طبيعة هذا المال أهو من الحلال
أم من الحرام.2- الجهل بحكم الرشوة فتلبيس الرشوة لباس الهدية أحياناً والمساعدة المالية والصدقة والهدية وتذاكر السفر أحياناً أخرى وفك الديون وسداد الفواتير في بعض الأحيان، ولذلك يجهل الإنسان أنها رشوة محرمة ومالها سحت لا يجوز.
3- الاستعجال وهو من طبيعة البشر فيرغب الناس في قضاء ما عليهم من ديون وسداد ما عليهم من التزامات وربما استعجلوا في التوسع في البيت والسيارات والأثاث بل ربما رغبوا في الرفاهية والسفر مع قلة ذات اليد وقلة الأموال فيستعجل في تحصيل المال من أي وجه كان سواء الحلال أم الحرام للحصول على ما يلبّي رغبته وحاجته.
العـــــلاج:
1- يجب أن تتولد لديك قناعة شرعية لا شك فيها وتنقل هذه القناعة لكل من
تعرف وتحب من زوجة وأولاد وأصحاب وأهل ودوانيات أن الرشوة حرام لا تجوز بأي صورة
من الصور وأنها سحت ومالها ممحوق البركة وفاعلها ملعون.2- التحذير والتنبيه على من يتعاطى الرشوة ومن يعمل عنده ولو أستدعى الأمر تسميته بعد التأكد والتبليغ عنه ومخاطبة المسؤولين لمعالجة هذه الظاهرة.
3- مناصحة الراشي والمرتشي والرائش وبيان عاقبة فعلهم.
4- تضخيم قضية الرشوة في الإعلام وبيان أثرها الدنيوي والأخروي.
5- تشديد العقوبة في حق الراشي والمرتشي، سواء بالمباشرة أو بالإغراء أو بالتعهدات والحكم شامل كذلك كل من قبل أو طلب فائدة من هذا القبيل لنفسه أو لغيره.
6- اختيار الصادق الآمين وتوليته للمسؤولية وإبعاد الخونة والمرتشين.
واللــه الموفـــق والهــادي إلــى ســواء السبيـــل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق